تحسين وتطوير طرق التدريس - الجزء الثاني
تطرقنا في المقالة السابقة إلى محورين أساسيين، الأول تعلق بالاهتمام بتنمية حافز التعلم عند التلاميذ في بداية كل درس أما الثاني فكان عن تجويد طرق الفهم والإفهام عند تدريس النص الشرعي. أما في هذه المقالة والتي سنتابع فيها الحديث عن كيفية تحسين وتطوير طرق التدريس من خلال محورين أساسيين وهما:
- الفهم والإفهام والاستنباط من النص الشرعي.
- تمرين المتعلمين على اكتساب القدرات والمهارات من خلال الأنشطة التعليمية.
الفهم، التحليل ثم الاستنباط من النص الشرعي.
وكانت وسائل علمائنا في ذلك في هذا:- عرض السنة النبوية على القرءان الكريم.
- جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد لكي يتضح المنسوخ من الناسخ…
- التوازن والمقارنة بين الاجتهادات وعزوها إلى أدلتها.
- ربط المضمون الشرعي بالواقع المعاش في أماكن عيشهم بهدف إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات الفقهية المطروحة في زمانهم.
وهذا التفصيل السالف الذكر كله يتعلق بالجانب العلمي، أما ما يتعلق بالجانب التربوي فإن المعلم يستخدم ما يوافق من هذه الأدوات المستوى التعليمي للمتعلمين، فلا ينبغي له أن يأخذها جملة وتفصيلا، كما لا يعقل أن ندع تعليم وتدريس علوم الشريعة حتى يتدرج المتعلم في المستويات العليا (التعليم الجامعي…)، فإنه من البديهي أن كل العلوم تُكتسب وتدرس بمبدأ التدرج والتدريج وذلك عبر هذه المراحل الأربع:
يتم الاقتصار في المرحلة الأولى على إعانة المتعلم ومساعدته على استنباط الأخلاق والقيم والآداب المتعلقة بالسلوك، وهذا ليس بالأمر الصعب فكلما عليه هو إتقان القراءة السليمة للنصوص، مع شيء من التحليل البسيط غير المعقد لبعض المضامين مع ضرورة ربط ذلك كله بما يعيشه المتعلم في المجتمع والمدرسة والبيئة المحيطة به…وهذا يسهل بالضرورة أن يقوم المتعلم بذاته باستخلاص واستنباط العظات والعبر ثم استثمارها وتمثلها في أفعاله اليومية.
يتم تعزيز كل ما سلف في هذه المرحلة؛ حيث يتم الانتقال إلى بناء التصورات والمفاهيم في ذهن المتعلم من خلال النصوص الشرعية (القرءان، الأحاديث النبوية، أحداث السيرة النبوية، النصوص الفكرية…)، ويَحتاج المتعلم في هذه المرحلة من تربيته وتعليمه إلى جملة من الأدوات والقدرات:
- التحليل اللغوي والاصطلاحي.
- عدم تعميق هذا التحليل في المختلف والغريب والمشكل من اللغة.
- فهم واستيعاب جميع أو غالب جمل النص الشرعي إضافة إلى هذا التحليل.
- استغلال واستخدام أسباب الورود والنزول.
يجب على المعلم أن يهيأ النصوص المختصرة الصحيحة والملائمة لمستوى المتعلم وبيئته ومحيطه، كما ينبغي عليه أن يسوق في درسه أقوال المفسرين والشراح القريبة إلى فهم المتعلم…ولا حاجة هنا إلى التطرق إلى اختلاف العلماء لأن المتعلم لن يدرك أسبابها…لكن المهم هنا هو أن يستنتج العبر والحِكَمَ مع خلق مفاهيم جديدة تصلح وتصحيح المفاهيم السابقة الخاطئة في ذهن المتعلم وهذا كله يطور القدرات السلوكية العملية.
يتم في المرحلة الثالثة تعبئة قدرات المتعلمين على الاستنباط والاستنتاج الثقافي والفكري وليس الفقهي والتشريعي فقط ويكون هذا عبر:
- استثمار أدوات الربط بين مختلف النصوص الشرعية.
- استغلال واستخدام علوم الدراية كالمقارنة بين أسباب الورود والنزول، والعلم بالمختلف والمشكل والغريب، ومعرفة الناسخ والمنسوخ…
- يسمح للمتعلمين في إبداء آرائهم ووجهات نظر أولية في بعض جوانب النص الشرعي (الفكرية واللغوية) باستعمال معارفه في العلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة.
- اعتبار القرءان الكريم والسنة النبوية مصدرين أساسيين للمعرفة والحضارة.
ينتقل المتعلم في هذه المرحلة وهي الأخيرة إلى تعبئة قدراته على الاستنتاج الفقهي والاستنباط الشرعي، ويتم فيها أي في هذه المرحلة استثمار ما بقي من الوسائل والأدوات المنهجية والمعرفية لفهم النصوص الشرعية (كمقاصد الشريعة والقواعد الفقهية والقواعد الأصولية وأسباب الخلاف الفقهي، والفقه المقارن، وتاريخ التشريع…).
خلاصة المحور الأول:
يلاحظ المتأمل في هذه المراحل تطورا تدريجيا للأدوات المستخدمة في عملية التعليم والتعلم بدء بالقدرات الادراكية والمعرفية للمتعلم وصولا إلى مهارات وقدرات انتاج المعرفة وهذا تجسيد سليم لقولة "خاطبوا الناس على قدر عقولهم".

تمرين المتعلمين على اكتساب القدرات والمهارات من خلال الأنشطة التعليمية.
الهدف من تدريس علوم الشريعة إلى جانب اكتساب المعارف وترسيخ القيم والأخلاق هو تنمية جملة من القدرات ثم المهارات لدى التلميذ، يتم صقلها وشحذها بواسطة خبرة المدرس ومهارته في خلق وإبداع أنشطة تعليمية تعلمية، مع ضرورة الانتباه إلى أن الطرق التقليدية المؤسسة على بيداغوجيا التلقين والاستظهار أساسية ومهمة لكن إذا تعلق الأمر بالنقل والرواية فقط أما الإفهام والفهم للنصوص الشرعية، والتدبر والتأمل في العظات والقيم المستخرجة منه، والتمثل المتعلق بالسلوك، فتحتاج إلى طرق مختلفة توجه إلى تنمية الجانب المعرفي ثم المهاري ثم الوجداني فالسلوكي…فهذه الطرق تنقل المتعلم من الرواية والحفظ والنقل إلى مستوى آخر وهو مرتبة الوعي وهي التي يقول فيها النبي الكريم محمد ﷺ: "فرب مبلَّغ أوعي من سامع". ولا بد للوصول إلى هذه المرتبة تنمية بعض القدرات في المتعلم بواسطة الدرس وهي على الشكل التالي:
- القدرة على استظهار النص الشرعي لفظا ومعنى في وقت الرواية.
- القدرة على فهم النص الشرعي وسبر أغوار البحث في مظانه بالقدرة على الرجوع إلى مصادر المعاجم والقواميس والفهارس وكتب الأطراف…
- القدرة على الاستدلال بالنص الملائم في أي موضوع، والقصد هنا بالاستدلال؛ استحضار الشاهد والدليل لقضية ما وموضوع معين مع الربط بينهما.
- أن يكون المتعلم قادرا على تتبع أقوال مفسري القرءان وشراح الحديث مع الجمع بينهما بطريقة وأسلوب علمي (كتابة أو شفهيا)، من خلال المقارنة والاستنتاج.
- أن يكون المتعلم قادرا على تمحيص الروايات والمنقولات والتمييز بين المردود والصحيح منها بإعمال قواعد علم الجرح والتعديل وعلم معرفة الرجال.
- أن يقدر على الربط بين أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، مع القدرة على حسن اختيار ما يناسب المواقف والأنشطة التعليمية.
- أن يكون التلميذ قادرا على استخراج وإظهار أبعاد النص الشرعي (اللغوية، الفقهية ثم الأخلاقية…)، لكن دون لَيِّ أعناق النصوص أو تحميلها ما ليس من معناها.
- القدرة على استخدام علوم الدراية (قواعد الترجيح، علم الناسخ، عرض النصوص على بعضها، معرفة المشكل والغريب والمختلف…)
- أن يكون المتعلم قادرا على الجمع بين نصوص الموضوع الواحد في نظرة نسقية وموضوعية.
خلاصة المحور الثاني:
يجب مراعاة مبدأ التدرج عند بناء وتطوير هذه القدرات وذلك من خلال الأنشطة التعليمية التعلمية المتعددة، مع ضرورة استعمال كل طرق التدريس الجديدة والملائمة لكل نشاط (الطريقة الحوارية، الاستنتاجية، طريقة حل المشكلات، الطريقة الاستقرائية…)، كما يجب على المدرس أن يشتغل مع المتعلمين بمجموعة من الأساليب (أسلوب العمل في مجموعات متكافئة تجمع كل واحد منها بين المتفوق والمتعثر، أسلوب الندوة لتطوير وتحفيز روح النقاش…)
كان علماؤنا جزاهم الله خيرا مولعين باللغة؛ غريبها ومشكلها…كما كانوا يبحثون في أسباب النزول والورود، وكانوا من حفاظ النصوص الفكرية والأدبية الشعرية منها والنثرية، واهتموا أيضا بأقوال من سبقوهم في العلم فكانوا يستعرضونها إما بغرض الإشارة إلى ما اعتراها من قصور، أو من أجل الإشارة إلى صوابها واستعمالها كأدلة يؤكدون بها كلامهم.
تجدر الإشارة والتنبيه إلى أن ما يلاحظ في المدرسة الحديثة المعاصرة من تحليل النصوص الشرعية بنفس الأدوات والمبادئ والقواعد، لا يرقى إلى المستوى المطلوب أو المقبول، فبعض المدرسين:
- لا يرجعون إلى مصادر شرح الألفاظ المبهمة وكتب غريب المعاني والألفاظ.
- لا يعودون إلى المصادر المفسرة للقرءان والشارحة للحديث بالقدر الكافي والمطلوب.
- لا يسُوقُون النص مع غيره في سياق موضوعي، فيستنبط من الحديث أو الآية الواحدة، فيضيع في مطب النظرة الأحادية إلى النصوص.
- غياب التجديد المستمر للعدة العلمية، وعدم بذل الجهد والوقت الكافي في تحضير الدروس…
شكرا لكم
ردحذفواجب عزيز القارئ
حذفأحسنت القول في: "يجب مراعاة مبدأ التدرج عند بناء وتطوير هذه القدرات وذلك من خلال الأنشطة التعليمية التعلمية المتعددة، مع ضرورة استعمال كل طرق التدريس الجديدة والملائمة لكل نشاط"
ردحذفمن طبيعة الحال التدرج شيء مهم في الدين والأفكار وحتى التربية
حذف