قراءة في وضعية البحث التربوي في علوم الشريعة
نعتقد أن رصد واقع البحث التربوي واعتماد نتائجه سواء في تشخيص وضعية التكوين أو بناء استراتيجيات التطوير في أي منظومة تربوية يعتبر المدخل العلمي الوحيد لرصد الحقائق، وتحديد آفاق العمل. لذلك ارتأينا أن ندخل تشخيص أزمة تدريس علوم الشريعة من بابها عن طريق تشخيص واقع البحث التربوي المتخصص فيها.
مشكلة قلة التأليف والبحث في التربية الإسلامية
إن الذي ينظر في الدراسات والبحوث الأخيرة في تتبع النظرية التربوية الإسلامية في التدريس بشكل عام وتدريس علوم الشريعة بشكل خاص، سيجد نفسه أمام آداب وتوجيهات عامة وإجابات عن قضايا في علم الرواية والدراية لا تربطها صلة واضحة، فتجدها تحاول جاهدة إعادة تركيب تلك التجارب التربوية المدونة في سياقات منتظمة لكي تعطي نظرة متكاملة عن الفكر التربوي الإسلامي، وعَرْضِهِ كنظام تكاملي ومتناسق بجانب التجارب الأخرى التي شهدتها الحضارة الإنسانية على مر العصور.
ثم إنك أيها القارئ الكريم لو أمعنت النظر في مؤلفات المناهج وطرق تدريس التربية الإسلامية ستجدها تتضمن توجيهات عامة وخططا للتدريس في غالبها متماثلة ومتشابهة، وهي على أهميتها وجديتها في التنظيم والحبك إلا أنها تعكس أزمة شُحِّ في المؤلفات المتخصصة في هذا الموضوع عند مراكز البحث العلمي، ويكفي أن تطالع آخر المؤلفات والإصدارات لتعرف هذه النتيجة مثل:
1- كتاب طرق تدريس المواد الدينية الإسلامية لحسن ملا عثمان.
2- كتاب التربية الإسلامية وفن التدريس لعبد الوهاب عبد السلام طويلة
3- كتاب طرق تدريس مواد العلوم الشرعية لكاتبيه محمد شحاتة وعبد الله بن محمد الجغيمان.
4- كتاب طرائق تدريس التربية الإسلامية للدكتور أحمد الخوالدة والأستاذ يحيى إسماعيل.
5- كتاب تدريس التربية الإسلامية للدكتور ماجد زكي الجلاد.
ندرة التأليف في المناهج التعليمية الإسلامية
ولو انتقلت أيها القارئ النهم إلى الكتابات المتخصصة في المناهج التعليمية لفن من فنون علوم الشريعة فإنك لا تكاد تقف إلا على محاولات عزيزة ونادرة، فقد قرأتُ منذ بضع سنوات مؤلفا بعنوان (النظرية التربوية في طرق تدريس الحديث النبوي) لكاتبه الأستاذ يوسف محمد صديق، قام فيه الكاتب بجمع وتتبع وتنظيم المادة التعليمية في أحاديث رسول الله ﷺ وصحابته والسائرين على منهجهم في التعليم من بعدهم، في سياق يُقنعك أنت كقارئ بالجهد الذي قام به علماؤنا في نشر العلم، كما أن الكاتب قد قدم إبداعا في طريقة صياغة العناوين والمباحث وطرق تنظيم وصياغة الأفكار التربوية تحت هذه المحاور برؤية تربوية نابعة من التجارب الميدانية في التعليم والتربية.
وقد كتب الدكتور أحمد محمد نور سيف في أواخر التسعينات من القرن العشرين مؤلفا تحت عنوان من أدب المحدثين في التربية والتعليم، قام فيه باستخلاص التوجيهات والأدبيات التربوية والتعليمية التي يفترض أن تكون في طلاب الحديث الشريف انطلاقا من المصادر الحديثية المعتمدة ومن كتب آداب العالم والمتعلم التي يزخر بها تراثنا التربوي، مبرزا أهمية مثل هذه التوجيهات والآداب في صياغة الشخصية الإسلامية المعاصرة.
يقول صاحب المؤَلف: "إن الغاية من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها الطلاب هو توجيه المتعلمين إلى منهاج الصحابة ومن تبعهم في طلب العلم، واكتساب طريقة التعامل مع الناس وذلك عبر مراعاة الاعتبارات التالية:
- العلم لا يكفي وحدة لتحقيق تربية سليمة لأي أمة.
- تحتاج التربية إلى إعداد قدوة حسنة وهذا لا يتحقق بالتلقين والوعظ فقط بل بأساليب جديدة كذلك.
- تقوم التربية على أخلاق تستوعب وتحتوي حياة الفرد في جميع أعماله وسلوكياته.
- لابد أن تكون مفاهيم أدب التربية خاضعة لأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها.
- يجب أن تقوم التربية على الوسطية والاعتدال"
وهكذا يخرج المؤَلف من الإطار التاريخي الاستقرائي إلى إطار التطبيق الحديث للنظرية التربوية الإسلامية المعتمدة على القرءان الشريف والسنة النبوية الرحيمة واجتهادات علماء الأمة الإسلامية في مجال التربية والتعليم.
النواقص المنهجية للمؤلفات السابقة
وبالرغم من أن هذه المؤلفات ومثيلاتها من الدراسات وكذا الأبحاث التي تناولت هذا الإشكال قد ركزت على بعض معالم أزمة النظرية التربوية الإسلامية، ووضعت بعض الإرهاصات الأولية في طرق التربية منطلقة من سير علماء الأمة الذين اشتغلوا بالتدريس، إلا ذلك لم يخرج في الغالب الأعم عن رصد معالم فلسفة التربية في القرآن الكريم والسنة النبوية، وإطار الآداب والأخلاق العامة التي يجب أن تكون مرتكز علاقة العالم بالمتعلم والتلميذ ومكان التعلم، وكل هذا ليس إلا جزء صغيرا من النظرية التربوية الخاصة بتدريس علوم الشريعة، كما سادت في عصر السلف الصالح.
التأليف في طرائق البحث في علوم الشريعة في الجامعات وطرائق التدريس.

وإذا انتقلت يا قارئ هذا المقال إلى مجال البحث في طرائق التربية والتدريس والبحث العلمي في علوم الشريعة في الجامعات الإسلامية، فإنك ستحس بنفس الانطباع، فقد كتب فريد الأنصاري رحمة الله عليه كتابا سماه: أبجديات البحث في العلوم الشرعية، وهو كما وصف مؤلفه ما هو إلا محاولة أولية في التأصيل المنهجي في الضوابط والمناهج والتقنيات ورسم آفاق البحث في هذا الموضوع.
وقد وجدت في نفس السياق بحوثا قيمةً قُدِّمَت إلى مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات الواقع والطموح والذي اشترك في تنظيمه خمس مؤسسات ومراكز بحث من دولة الأردن وهي:
- جمعية الدراسات والبحوث الإسلامية.
- الجامعة الأردنية، وجامعة اليرموك، وجامعة مؤتة.
- المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
وتعد أشغال هذا الحفل العلمي بداية فريدة من نوعها للبحث في طرق تدريس العلوم الشرعية ومناهجها، إذ قامت الدراسات المقدمة للمؤتمر بطرح الأسئلة المحورية التي تشغل ذهن كثير من الباحثين والمدرسين في هذا مجال تدريس علوم الشريعة من ثلاث زوايا: الزاوية المنهجية، العلمية والتقنية، وأحيل قارئي الكريم إلى البحث الذي قدمه الدكتور سري زيد الكيلاني من الجامعة الأردنية بعنوان: طرق تدريس علوم الشريعة في التعليم الجامعي، وقد أفرد فيه جزءا للكلام عن قراءات في طرق وأساليب التدريس والمهارات والأنشطة التي يحتاج إليها في القرءان والسنة النبوية، وقد تم عقد هذا المؤتمر بسلطنة عمان شهر غشت سنة 1994م، وقام بتحرير أعماله وإعدادها للنشر الدكتور محمد عبد الكريم أبو سل والدكتور فتحي ملكاوي.
تم بعد ذلك تم عقد مؤتمرات وندوات لعل أشهرها "الندوة العلمية المنظمة باليرموك" تحت عنوان البحث التربوي وتطبيقاته في العلوم الإسلامية وقد قام بتنظيمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالتعاون مع المنظمة الإسلامية إيسيسكو، وتعتبر الدراسات التي قدمت إلى هذا المؤتمر العلمي رؤية تقدمية لمجموعة من الإشكالات المتعلقة بطرق ووسائل تدريس علوم الشريعة ومناهجها في الجامعات الإسلامية كما تعزز هذه البحوث دور البحث التربوي المتخصص في بناء منهجية معاصرة للتدريس والبحث، من صياغة الأهداف إلى صياغة مفردات المنهاج الدراسي، إلى تحليل طرق التدريس وسائله وأساليب التقويم.
الحاجة إلى تكثيف البحث في مجال التربية الإسلامية
وتبقى هذه البحوث والدراسات على أهميتها وَجِدِّيَّتِها قليلة ونادرة إذا ما قارناها مع ما ينبغي أن يُنْجَزَ من دراسات وبحوث نظرية وميدانية في بناء مناهج وطرق تدريس المعرفة الإسلامية عامة وعلوم الشريعة على وجه الخصوص.
وسيبقى سؤال النظرية التربوية في تدريس علوم الشريعة بمفهومها الكلي المعاصر قائما، وسيبقى في ذهن الباحثين كذلك ما لم تتراكم جهود علمية مماثلة لتسليط الضوء على زوايا لا زال يكتسيها الغموض في تراثنا الإسلامي التربوي سواء على مستوى فلسفة التربية أو على مستوى منهاج التعليم، وما لم يتم دراسة تراثنا التعليمي والتربوي في سياق حضاري تجديدي وتفاعلي مع التجارب الأخرى، وما لم نقم بتطوير المناهج التعليمية بشكل يَكْفُلُ التجديد في العدة التعليمية والتربوية لتدريس علوم الشريعة، تستنطق تراثنا التربوي المليء بالكنوز التربوية، وتستغل أحدث نظريات التعلم، مع ضرورة الحفاظ على أدبيات وآداب وأخلاق مجالس العلم.
نخلص إلى أن الأسئلة الجوهرية الملحة التي تنتظر الإجابة عنها والتي قد تسعف بعض الدراسات والأبحاث في تاريخ التربية والتعليم عند المسلمين في تسهيل مأمورية البحث عن أجوبتها ولكنها لا تقدم الجواب الكامل، لأن التاريخ للعبرة، لكن تجاربه لا يمكن أن تجيب عن أسئلة هذه الفترة، ومن أهم هذه الأسئلة:
2- كيف نقوم بتحويل علوم الشريعة الإسلامية من مادة علمية لا يفقهها إلا المتخصصون إلى مادة تعليمة تعمل على بناء المفاهيم بالتدريج في ذهن المتعلم؟
3- كيف يمكننا أن نلائم بين الضوابط العلمية لدراسة علوم الشريعة حسب تخصصاتها وفنونها من جهة والحاجات التربوية للتعليم المدرسي المعاصر من جهة أخرى؟
4- كيف نتعامل مع تدريس مهارات علوم الشريعة في وضعيات تعليمية مختلفة: كالاستدلال والتحليل ثم الاستنباط وغير ذلك من الوضعيات التعليمية، مع العلم أن لكل وضعية أدبياتها التربوية الخاصة؟
5- كيف يمكننا أن نقوم باستثمار تكنولوجيا الاعلام والاتصال في تدريس علوم الشريعة الإسلامية بشكل يضمن الاستفادة من هذه الوسائل دون الإضرار بالمتعلم؟
6- كيف نستثمر أساليب التقويم الحديثة في تقييم وتقويم مستويات التكوين المختلفة لدى المتعلمين على مستوى المعارف والمهارات والقيم المرسخة؟
إن هذه الأسئلة الكبرى على بساطتها تنتظم في مساقات سنحاول أن نرصد فيها الواقع ونشير إلى بعض إشكالاته ومحاذيره، ونقدم بعض الإجابات ونثير بعض التساؤلات الأخرى ليتسمر البحث.
إرسال تعليق
- ملاحظاتك مهمة بالنسبة لك أيها القارئ الكريم:
1- أرجوك لا تنشر تعليقا غير مرغوب فيها.
2- رجاء تجنب تضمين عناوين URL الخاصة بموقع الويب في تعليقاتك الجميلة.